فصل: تفسير الآية رقم (88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (87):

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)}
{اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي والله ليحشُرَّنكم من قبوركم إلى يوم حساب يومِ القيامةِ، وقيل: إلى بمعنى في والجملةُ القسميةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو هي الخبرُ، و{لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراضٌ وقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في يوم القيامةِ أو في الجمع حالٌ من اليوم أو صفةٌ للمصدر أي جمعاً لا ريب فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} إنكارٌ لأن يكون أحدٌ أصدقَ منه تعالى في وعده وسائرِ أخبارِه وبيانٌ لاستحالته كيف لا والكذِبُ مُحالٌ عليه سبحانه دون غيرِه.

.تفسير الآية رقم (88):

{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)}
{فَمَا لَكُمْ} مبتدأٌ وخبرٌ، والاستفهامُ للإنكار والنفي، والخطابُ لجميع المؤمنين لكنّ ما فيه من معنى التوبيخِ متوجهٌ إلى بعضهم، وقولُه تعالى: {فِى المنافقين} متعلقٌ إما بما تعلق به الخبرُ، أي أيُّ شيءٍ كائنٌ لكم فيهم أي في أمرهم وشأنِهم، فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، وإما بما يدل عليه قولُه تعالى: {فِئَتَيْنِ} من معنى الافتراقِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وإما بمحذوف وقع حالاً من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنه في الأصل صفةٌ فلما قُدّمت انتصبت على الحال كما هو شأنُ صفاتِ النكراتِ على الإطلاق، أو من الضمير في تفترقون وانتصابُ فئتين عند البصْريين على الحالية من المخاطَبين والعاملُ ما في لكم من معنى الفعلِ، كما في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} وعند الكوفيين على خبرية كان مُضمرةً أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين، والمرادُ إنكارُ أن يكون للمخاطبين شيءٌ يصحّح اختلافَهم في أمر المنافقين وبيانِ وجوبِ بتِّ القولِ بكفرهم، وإجرائهم مُجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكامِ. وذكرُهم بعنوان النفاقِ باعتبار وصفِهم السابق. روي أنهم قومٌ من المنافقين استأذنوا رسولَ الله عليه الصلاة والسلام في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينةِ فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مَرْحلةً فمرحلة حتى لحِقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في أمرهم وقيل: هم قوم هاجروا من مكةَ إلى المدينة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على دينك وما أخرَجَنا إلا اجتواءُ المدينةِ والاشتياقُ إلى بلدنا، وقيل: هم ناسٌ أظهروا الإسلامَ وقعدوا عن الهجرة، وقيل: هم قومٌ خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ثم رجعوا، ويأباه ما سيأتي من جعل هِجرتِهم غايةً للنهي عن تولِّيهم، وقيل: هم العُرَنيّون الذين أغاروا على السَّرْح وقتلوا راعيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويردّه ما سيأتي من الآيات الناطقةِ بكيفية المعاملة معهم من السلم والحربِ وهؤلاء قد أُخذوا وفُعل بهم ما فُعل من المُثلةِ والقتلِ ولم يُنقلْ في أمرهم اختلافُ المؤمنين.
{والله أَرْكَسَهُمْ} حال من المنافقين مفيدةٌ لتأكيد الإنكارِ السابقِ واستبعادِ وقوعِ المنكرِ ببيان وجودِ النافي بعد بيانِ عدمِ الداعي، وقيل: من ضمير المخاطبين والرابطُ هو الواو أي أيُّ شيءٍ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقَكم على كفرهم، وهو أن الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا {بِمَا كَسَبُواْ} بسبب ما كسَبوه من الارتداد واللّحوقِ بالمشركين والاحتيالِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ، وقيل: ما مصدريةٌ أي بكسبهم، وقيل: معنى أركسهم نَكّسهم بأن صيَّرهم للنار وأصلُ الرِّكسِ ردُّ الشيءِ مقلوباً، وقرئ {رَكَّسهم} مشدداً ورَكَسَهم أيضاً مخففاً {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخٌ لهم على زعمهم ذلك وإشعارٌ بأنه يؤدي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ من أضله الله تعالى، وذلك بأن الحُكمَ بإيمانهم وادعاءِ اهتدائِهم وهم بمعزل من ذلك سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِ المنافقين لتشديد الإنكارِ وتأكيدِ استحالةِ الهدايةِ بما ذكر في حيز الصلةِ.
وتوجيهُ الإنكارِ إلى الإرادة لا إلى متعلَّقها بأن يقالَ: أتهدون الخ، للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادتُه فضلاً عن إمكان نفسِه، وحملُ الهدايةِ والإضلالِ على الحُكم بهما يأباه قوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن يَخْلُقْ فيه الضلالَ كائناً من كان فلن تجدَ له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهدِيَه إليه، وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالةِ ما ليس في قوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ونظائرِه. وحملُ إضلالِه تعالى على حُكمه وقضائِه بالضلال مُخِلٌّ بحسن المقابلة بين الشرطِ والجزاءِ، وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحد من المخاطَبين للإشعار بشمول عدمِ الوجدان للكل على طريق التفصيلِ، والجملةُ إما حالٌ من فاعل تريدون أو تهدوا والرابطُ هو الواو أو اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ للإنكار السابقِ ومؤكدٌ لاستحالة الهدايةِ فحينئذ يجوز أن يكون الخطابُ لكل أحدٍ ممن يصلُح له من المخاطَبين أولاً ومن غيرهم.

.تفسير الآيات (89- 90):

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)}
{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} كلامٌ مستأنفٌ لبيان غلوِّهم وتماديهم في الكفر وتصدِّيهم لإضلال غيرِهم إثرَ بيانِ كفرِهم وضلالِهم في أنفسهم، وكلمةُ لو مصدرية غنيةٌ عن الجواب، وهي مع ما بعدها نصبٌ على المفعولية، أي ودّوا أن تكفروا، وقولُه تعالى: {كَمَا كَفَرُواْ} نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي كفراً مثلَ كفرِهم، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ كما هو رأيُ سيبويهِ وقولُه تعالى: {فَتَكُونُونَ سَوَاء} عطفٌ على تكفرون داخلٌ في حكمه أي ودوا أن تكفروا فتكونوا سواءً مستوِين في الكفر والضلالِ، وقيل: كلمةُ لو على بابها، وجوابُها محذوفٌ كمفعول ودّوا لتقدير ودوا كفرَكم لو تكفرون كما كفروا لسخرّوا بذلك {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء} الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ وجمعُ أولياءَ لمراعاة جمعِ المخاطَبين فإن المرادَ نهيُ أن يتخذ واحدٌ من المخاطبين ولياً واحداً منهم أي إذا كان حالُهم ما ذكر من وِدادة كفرِكم فلا توالوهم {حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانَهم بهجرةٍ كائنةٍ لله تعالى ورسولِه عليه الصلاة والسلام لا لغرض من أغراض الدنيا.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي عن الإيمان المؤيَّدِ بالهجرة الصحيحةِ المستقيمةِ {فَخُذُوهُمْ} أي إذا قدَرتم عليهم {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من الحِلّ والحرمِ فإن حُكمَهم حكمُ سائرِ المشركين أسراً وقتلاً {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي جانبوهم مجانبةً كليةً ولا تقبَلوا منهم وِلايةً ولا نُصرةً إبداً {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} استثناءٌ من قوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم}، أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميّون «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقتَ خروجِه من مكةَ قد وادَعَ هِلالَ بنَ عُويمِرٍ الأسلميَّ على أنه لا يُعينُه ولا يُعينُ عليه وعلى أن من وَصل إلى هلالٍ ولجأ إليه فله من الجِوار مثلُ الذي لهلال»، وقيل: هم بنو بكرِ بنِ زيدِ مَناةَ، وقيل: هم خُزاعة.
{أَوْ جَاءوكُمْ} عطفٌ على الصلة أي أو الذين جاءوكم كافّين عن قتالكم وقتالِ قومِهم. استُثني من المأمور بأخذهم وقتلِهم فريقان: أحدُهما من ترك المحاربين ولحِق بالمعاهَدين، والآخرُ من أتى المؤمنين وكفّ عن قتال الفريقين.
أو على صفةِ قومٍ كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهَدين أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم والقتالِ عليكم، والأولُ هوالأظهرُ لما سيأتي من قوله تعالى: {فَإِنِ اعتزلوكم} الخ، فإنه صريحٌ في أن كفَّهم عن القتال أحدُ سَبَبي استحقاقِهم لنفي التعرُّضِ لهم، وقرئ {جاءوكم} بغير عاطفٍ على أنه صفةٌ بعد صفةٍ أو بيانٌ ليصِلون أو استئنافٌ {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حالٌ بإضمار قد بدليل أنه قرئ حَصِرَةٌ صدورُهم وحَصِراتٌ صدورُهم، وقيل: هو بيانٌ لجاءوكم وهم بنو مَدلج جاءوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مقاتلين، والحصرُ الضيقُ والانقباض {ءانٍ يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} أي من أن يقاتلوكم أي لأَنْ يقاتلوكم أو كراهةَ أن يقاتلوكم إلخ {وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} جملةٌ مبتدأةٌ جاريةٌ مجرى التعليلِ لاستثناء الطائفةِ الأخيرةِ من حكم الأخذِ والقتلِ ونظمِهم في سلك الطائفةِ الأولى الجاريةِ مَجرى المعاهَدين مع عدم تعلّقِهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى، أي لو شاء الله لسلطهم عليكم ببسط صدورِهم وتقويةِ قلوبِهم وإزالةِ الرعبِ عنها {فلقاتلوكم} عَقيبَ ذلك ولم يكفّوا عنكم، واللامُ جوابُ لو على التكرير أو الإبدالِ من الأُولى، وقرئ {فلقَتّلوكم} بالتخفيف والتشديد {فَإِنِ اعتزلوكم} ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يقاتلوكم} مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم} أي الانقيادَ والاستسلام وقرئ بسكون اللام {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن كفَّهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومَهم أيضاً وإلقاءَهم إليكم السَّلَم وإن لم يعاهدوكم كافيةٌ في استحقاقهم لعدم تعرُّضِكم لهم.

.تفسير الآية رقم (91):

{سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)}
{سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} هم قومٌ من أسَد وغطَفانَ كانوا إذا أتَوا المدينةَ أسلموا وعاهَدوا ليأْمَنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم ونكَثوا عُهودَهم ليأمَنوا قومَهم، وقيل: هم بنو عبدِ الدارِ وكان ديدنَهم ما ذكر {كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة} أي دُعوا إلى الكفر وقتالِ المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} قُلبوا فيها أقبحَ قلْبٍ وأشنَعَه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرَّيرٍ {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} بالكف عن التعرُّض لكم بوجه ما {وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم} أي لم يُلْقوا إليكم الصُلْحَ والعهدَ بل نَبَذوه إليكم {وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ} أي لم يكفّوها عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} أي تمكّنتم منهم {وَأُوْلَئِكُمْ} الموصوفون بما ذُكر من الصفات القبيحةِ {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً} حُجةً واضحةً في الإيقاع بهم قتلاً وسبْياً لظهور عداوتِهم وانكشافِ حالِهم في الكفر والغدرِ وإضرارِهم بأهل الإسلامِ أو تسلطاً ظاهراً حيث أذِنّا لكم في أخذهم وقتلِهم.

.تفسير الآية رقم (92):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي وما صح له ولا لاقَ بحاله {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} بغير حقَ فإن الإيمانَ زاجرٌ عن ذلك {إِلا خطأ} فإنه ربما يقع لعدم دخولِ الاحترازِ عنه بالكلية تحت الطاقةِ البشريةِ، وانتصابُه إما على أنه حالٌ أي وما كان له أن يقتلَ مؤمناً في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ أو على أنه المفعولُ له أي وما كان له أن يقتله لعِلّة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفةٌ للمصدر أي إلا قتلاً خطأً، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقديرُ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأً، وقيل: {تَعْلَمُونَ مَا كَانَ} نفيٌ في معنى النهي، والاستثناءُ منقطِعٌ أي لكنْ إن قتله خطأً فجزاؤُه ما يُذكر، والخطأُ ما لا يقارِنه القصْدُ إلى الفعل أو إلى الشخص، أو لا يُقصد به زُهوقُ الروحِ غالباً أو لا يقصد به محظورٌ كرمي مُسلمٍ في صف الكفارِ مع الجهل بإسلامه، وقرئ {خَطاءً} بالمد وخَطاً كعصا بتخفيف الهمزة. روي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ وكان أخا أبي جهلٍ لأمّه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرةِ النبي عليه الصلاة والسلام فأقسمَتْ أمُّه لا تأكلُ ولا تشربُ ولا يَأْويها سقفٌ حتى يرجِع فخرج أبو جهل ومعه الحارثُ بنُ زيدِ بنِ أبي أنيسةَ فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذُّروة والغارب وقال: أليس محمدٌ يحثُّك على صلة الرحِمِ؟ انصرِفْ وبَرَّ أمَّك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسَحا من المدينة كتَفاه وجلَده كلُّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ فقال للحارثِ: هذا أخي فمن أنت يا حارث؟ لله علي إن وجدتك خالياً أن أقتلَك، وقدِما به على أمه فحلفت لا يُحَلُّ كِتافُه أو يرتدَّ ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك، وأسلم الحارثُ وهاجر فلقِيَه عياشُ بظهر قُباءَ ولم يشعُرْ بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أُخبر بإسلامه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلتُه ولم أشعُرْ بإسلامه فنزلت {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه أو فجزاؤُه تحريرُ رقبةٍ أي إعتاقُ نسمةٍ عبّر عنها بها كما يعبّر بالرأس {مُؤْمِنَةٍ} أي محكومٌ بإسلامها وإن كانت صغيرة {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} مؤدّاةٌ إلى ورثته يقتسِمونها كسائر المواريثِ لقول الضحاك بنِ سفيانَ الكِلابيّ: كتب إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأمُرني أن أُورّث امرأةَ أشيمَ الضبابيّ من عقْل زوجِها {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي إلا أن يتصدق أهلُه عليه سمِّي العفوُ عنها صدقةً حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، وعن النبي عليه الصلاة والسلام: «كلُّ معروفٍ صدقةٌ» وقرئ {إلا أن يتصدقوا} وهو متعلقٌ بعليه أو بمُسلّمة أي تجب الديةُ أو يسلّمها إلى أهله إلا وقت تصدقِهم عليه فهو في محل النصبِ على الظرفية أو إلا حالَ كونِهم متصدِّقين عليه فهو حالٌ من الأهل أو القاتلِ {فَإن كَانَ} أي المقتولُ {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} كفارٍ محاربين {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ولم يَعْلم به القاتلُ لكونه بين أظهُرِ قومِه بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقْهم أو بأن أتاهم بعدما فارقهم لِمُهمَ من المهمات {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعلى قاتله الكفارةُ دون الديةِ إذ لا وِراثة بينه وبين أهلِه لأنهم محارَبون {وَإِن كَانَ} أي المقتولُ المؤمنُ {مِن قَوْمٍ} كفرَة {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} أي عهدٌ مؤقتٌ أو مؤبدٌ {فَدِيَةٌ} أي فعلى قاتله ديةٌ {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} من أهل الإسلامِ إن وجدوا.
ولعل تقديمَ هذا الحكمِ هاهنا مع تأخيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الديةِ تحاشياً عن توهّم نقضِ الميثاقِ {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} كما هو حكمُ سائرِ المسلمين، ولعل إفرادَه بالذكر مع اندراجه في حكم ما سبق من قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً} خطأ الخ، لبيان أن كونَه فيما بين المعاهَدين لا يمنع وجوبَ الديةِ كما منعه كونُه فيما بين المحارَبين، وقيل: المرادُ بالمقتول الذميُّ أو المعاهَدُ لئلا يلزَمَ التكرارُ بلا فائدةٍ ولا التوريثُ بين المسلمِ والكافر، وقد عرفت عدمَ لزومِهما {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي رقبةً ليُحرِّرها بأن لم يملِكْها ولا ما يُتوصّل به إليها من الثمن {فَصِيَامُ} أي فعليه صيامُ {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لم يتخللْ بين يومين من أيامهما إفطارٌ {تَوْبَةً} نُصب على أنه مفعولٌ له أي شُرع لكم ذلك توبةً أي قَبولاً لها، من تاب الله عليه إذا قبِل توبتَه، أو مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ، أي تاب عليكم توبةً، وقيل: على أنه حالٌ من الضمير المجرورِ في عليه بحذف المضافِ أي فعليه صيامُ شهرين حالَ كونِه ذا توبةٍ، وقولُه تعالى: {مِنَ الله} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لتوبةً أي كائنةً منه تعالى {وَكَانَ الله عَلِيماً} بجميع الأشياءِ التي من جملتها حالُه {حَكِيماً} في كل ما شرَع وقضى من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها ما شرعه في شأنه.